سورة الحجرات - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} قرأ العامة {تُقَدِّمُوا} بضم التاء وكسر الدال من التقديم، وقرأ الضحّاك، ويعقوب بفتحهما من التقدّم. واختلف المفسِّرون في معنى الآية، فروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس، قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة. عطية عنه: لا تتكلّموا بين يدي كلامه.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن بن مالك الشيباني، قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد بن عثمان الخزاز. قال: حدّثنا حسين بن محارق أبو جنادة، عن عبد الله بن سلامة، عن السبعي، عن جابر بن عبد الله {لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} قال: في الذبح يوم الأضحى، وإليه ذهب الحسن، قال: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك أن ناساً من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
وأخبرنا عبد الخالق، قال: أخبرنا ابن حيي قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي العوام الرياحي، قال: حدّثنا أبي. قال: حدّثنا النعمان بن عبد السّلم التيمي، عن زفر بن الهذيل، عن يحيى بن عبد الله التيمي عن حبّال بن رفيدة، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنه في قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم.
وروي عن مسروق أيضاً، قال: دخلت على عائشة في اليوم الذي جئت فيه، فقالت للجارية: اسقيه عسلاً، فقلت: إنّي صائم. فقالت: قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم، وفيه نزلت {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال: حدّثنا عبدالله بن الفضل. قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم. قال: حدّثني هشام بن يوسف، عن ابن جريح، قال: أخبرني ابن أبي مليكة أنّ عبدالله بن الزبير أخبرهم، قال: قدم رَكب من بني تميم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد زرارة، وقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبوبكر: ما أردت إلاّ خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما، فأنزل الله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ}... الآية.
وقال قتادة: نزلت في ناس كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، لوضع كذا. فكره الله ذلك وقدّم فيه. مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله بشيء حتّى يقضيه الله على لسانه.
الضحّاك: يعني في القتال وشرائع الدين يقول: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله. حيان، عن الكلبي لا تستبقوا رسول الله بقول، ولا فعل حتّى يكون هو الذي يأمركم.
وبه قال السدّي، وقال عطاء الخراساني: نزلت في قصة بئر معونة، وقيل في الثلاثة الذين نجّوا الرجلين السَّلميين، اللذين اعتزما إلى بني عامر وأخْذهم مالهما وكانا من أهل العهد، فلمّا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق الخبر إليه، فقال: «بئس ما صنعتم، هما من أهل ميثاقي وهذا الذي معكم من نسوتي»، قالا: يا رسول الله إنّهما زعما أنّهما من بني عامر، فقلنا: رجلان ممّن قتل إخواننا.
فقلنا: هما لذلك. وأتاه السَّلميون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا قود لهما لأنّهما اعتزما إلى عدوّنا». ولكنّه أيدهما، فوادَّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله سبحانه في ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} حين قتلوا الرجلين، وهذه رواية ماذان عن ابن عبّاس.
وقال ابن زيد: لا تقطعوا أمراً دون رسول الله، وقيل: لا تمشوا بين يدي رسول الله، وكذلك بين أيدي العلماء فإنّهم ورثة الأنبياء.
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن الخبازي، قال: حدّثنا أبو القاسم موسى بن محمّد الدينوري بها، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى، قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدّثنا رجل بمكّة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي الدرداء، قال: رآني النبيّ صلى الله عليه وسلم أمشي أمام أبي بكر، فقال: «تمشي أمام من هو خير منك في الدّنيا والآخرة، ما طلعت الشمس، ولا غربت على أحد بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم والمرسلين خيراً وأفضل من أبي بكر».
وقيل: إنّها نزلت في قوم كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سُئل الرسول عن شيء، خاضوا فيه، وتقدّموا بالقول، والفتوى، فنهوا عن ذلك، وزجروا عن أن يقول أحد في شيء من دين الله سبحانه، قبل أن يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: لا تطلبوا منزلة وراء منزلته. قال الأخفش: تقول العرب: فلان تقدّم بين يدي أبيه، وأُمّه، ويتقدّم إذا استبدّ بالأمر دونهما. {واتقوا الله} في تضييع حقّه، ومخالفة أمره. {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لأقوالكم {عَلِيمٌ} بأفعالكم، وأحوالكم.
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} الآية نزلت في ثابت بن قيس ابن شماس، كان في أذنه وقر، وكان جهوري الصّوت، فإذا كلّم إنساناً جهر بصوته، فربّما كان يكلِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته، فأنزل الله سبحانه {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي لا تغلظوا له في الخطاب، ولا تنادوه باسمه يا محمّد، يا أحمد، كما ينادي بعضكم بعضاً، ولكن فخّموه، واحترموه، وقولوا له قولاً ليّناً، وخطاباً حسناً، بتعظيم، وتوقير: يا نبي الله، يا رسول الله، نظيره قوله سبحانه: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63].
{أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} كي لا تبطل حسناتكم. تقول العرب: أسند الحائط أن يميل {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} فلمّا نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق، فمرّ به عاصم بن عدي، فقال: ما يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوّف أن تكون نزلت فيَّ، وأنا رفيع الصوت، أخاف أن يحبط عملي، وأن أكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاء، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي، فشدّي على الضبة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرجت عطفه، وقال: لا أخرج حتّى يتوفّاني الله، أو يرضى عنّي رسول الله، فأتى عاصم رسول الله، فأخبره بخبره. فقال: «اذهب، فادعه لي». فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده، فجاء إلى أهله، فوجده في بيت الفرس، فقال له: إنّ رسول الله يدعوك، فقال: أكسر الصَبّة، فأتيا رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا ثابت؟» فقال: أنا صيّت وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيَّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تعيش سعيداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنّة»، فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، لا أرفع صوتي أبداً على رسول الله، فأنزل الله سبحانه: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} الآية.
قال أنس: فكنّا ننظر إلى رجل من أهل الجنّة، يمشي بين أيدينا، فلمّا كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة، رأى ثابت في المسلمين بعض الانكسار، وانهزمت طائفة منهم، فقال: أف لهؤلاء، وما يصنعون. ثمّ قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله مثل هذا، ثمّ ثبتا، ولم يزالا يقاتلان حتّى قُتلا. وثابت بن قيس عليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام أنّه قال له: اعلم أنّ فلاناً رجلٌ من المسلمين نزع درعي، فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عنده فرس تستر في طوله، وقد وضع على درعي لرمه، فأتِ خالد بن الوليد، فأخبره حتّى يسترد درعي وأتِ أبا بكر خليفة رسول الله وقل له: إنّ عليَّ ديناً حتّى يقضي، وفلان من رقيقي عتيق.
فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر تلك الرؤيا، فأجاز أبو بكر وصيّته. قال مالك بن أنس: لا أعلم أجيزت بعد موت صاحبها إلاّ هذه.
حدّثنا أبو محمّد المخلدي، قال: أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، قال: حدّثنا زياد بن أيّوب، قال: حدّثنا عباد بن العوّام، ويزيد بن هارون وسعيد بن عادر، عن محمّد بن عمرو، عن أبي سلمة، قال: حدّثنا سعيد، عن أبي هريرة.
قال: لمّا نزلت {لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي}... الآية، قال أبو بكر: والله لا أرفع صوتي إلاّ كأخي السِرار.
وروى ابن أبي مليكة عن أبي الزبير، قال: لمّا نزلت هذه الآية، ما حدّث عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فيسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم كلامه حتّى يستفهمه ممّا يخفض صوته، فأنزل الله سبحانه فيهم: {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله} إجلالاً له {أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} أي اختبرها، فأخلصها، واصطفاها كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج خالصه، وقال ابن عبّاس: أكرمها.
وأخبرنا أبو سعيد محمّد بن موسى بن الفضل النيسابوري، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمّد ابن عبدالله بن أحمد الإصبهاني، قال: حدّثنا أبو بكر عبد الله بن محمّد بن عبد القريشي، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى بن أبي خاتم، قال: حدّثني جعفر بن أبي جعفر، عن أحمد بن أبي الخولدي، قال: سمعت أبا سلمان يقول: قال عمر بن الخطّاب في قوله: {الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} قال: أذهب الشهوات منها {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ويقال: إنّ هذه الآيات الأربع من قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى قوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} نزلت في وفد تميم.
وهو ما أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمّد، قال: حدّثني أبو جعفر محمّد بن صالح بن هاني الورّاق سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، قال: حدّثنا الفضل بن محمّد بن المسيب بن موسى الشعراني، قال: حدّثنا القاسم بن أبي شيبة، قال: حدّثنا مُعلّى بن عبد الرّحمن، قال: حدّثنا عبد الحميد بن جعفر بن عمر بن الحكم، عن جابر بن عبد الله، قال: جاءت بنو تميم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب: يا محمّد اخرج علينا، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين. قال: فسمعها النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى الله عليه وسلّم، فخرج عليهم، وهو يقول: «إنّما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمّه شين». قالوا: نحن ناس من بني تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا». فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك، وفضل قومك. فقام، فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عدّة، ومالاً، وسلاحاً، فمن أنكر علينا قولنا، فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعال هي خير من فِعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيب رسول الله: «قم فأجبه».
فقام، فقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأومن به، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، ثمّ دعا المهاجرين من بني عمّه أحسن الناس وجوهاً وأعظمهم أحلاماً. فأجابوه، فقالوا: الحمد لله الذي جعلنا أنصاره، ووزراء رسوله، وعزّاً لدينه، فنحن نقاتل الناس، حتّى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، فمن قالها منع منّا ماله، ونفسه، ومن أبى قتلناه، وكان زعمه في الله علينا هيناً، أقول قولي وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم يا فلان، فقل أبياتاً تذكر فيها فضلك، وفضل قومك. فقام الشاب، فقال:
* نحن الكرام فلا حيٌّ يعادلنا * فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع *
* ونطعم الناس عند القحط كلّهم * من السديف إذا لم يؤنس القزع *
* إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد * إنا كذلك عند الفخر نرتفع *
قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسّان بن ثابت، فانطلق إليه الرّسول، فقال: وما تريد منّي وكنت عنده؟ قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم، وخطيبهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه، وتكلّم شاعرهم، فأرسل إليك لتجيبه.
وذكر له قول شاعرهم. قال: فجاء حسّان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبه فقال: يا رسول الله مره، فليُسمعني ما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسمعه ما قلت»، فأنشده ما قال، فقال حسّان:
* إنّ الذوائب من فهر وإخوتهم * قد شرّعوا سُنّة للنّاس تتّبع *
* يرضى بها كلّ من كانت سريرته * تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع *
ثمّ قال حسّان:
* نصرنا رسول الله والدين عنوة * على رغم عات من معد وحاضر *
* بضرب كأبزاغ المخاض مشاشه * وطعن كأفواه اللقاح الصوادر *
* وسل أُحداً يوم استقلت شعابه * بضرب لنا مثل الليوث الجواذر *
* ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى * إذا طاب ورد الموت بين العساكر *
* ونضرب هام الدارعين وننتمي * إلى حسب من جذم غسان قاهر *
* فلولا حياء الله قلنا تكرّماً * على النّاس بالخيفين هل من منافر *
* فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى * وأمواتنا من خير أهل المقابر *
قال: فقام الأقرع بن حابس، فقال: إنّي والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء، وإنّي قد قلت شعراً، فاسمعه منّي، فقال: هات، فقال:
* أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا * إذا خالفونا عند ذكر المكارم *
* وإنّا رؤُس الناس من كلّ معشر * وأنّ ليس في أرض الحجاز كدارم *
* وإنّ لنا المرباع في كلّ غارة * تكون بنجد أو بأرض التهائم *
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا حسّان فأجبه». فقام حسّان، فقال:
* بني دارم لا تفخروا إنّ فخركم * يعود وبالاً عند ذكر المكارم *
* هبلتم علينا تفخرون وأنتمُ * لنا خول من بين ظئر وخادم *
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد كنت غنياً يا أخا دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أنّ الناس قد نسوه».
قال: فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ عليهم من قول حسّان. ثمّ رجع حسّان إلى شعره. فقال:
* كأفضل ما نلتم من المجد والعلى * ردافتنا من بعد ذكر الأكارم *
* فإن كنتمُ جئتمْ لحقن دمائكم * وأموالكم أن تقسموا في المقاسم*
* فلا تجعلوا لله ندّاً وأسلموا * ولا تفخروا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم بدارم *
* وإلاّ وربّ البيت مالت أكفّنا * على هامكم بالمرهفات الصوارم *
قال: فقام الأقرع بن حابس، فقال: إنّ محمّداً المولى، إنه والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلّم خطيبنا، فكان خطيبهم أحسن قولاً، وتكلّم شاعرنا، فكان شاعرهم أشعر، وأحسن قولاً. ثمّ دنا من النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسوله.
فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما يضرّك ما كان قبل هذا». ثمّ أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وقد كان يخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم، وكان قيس بن عاصم يبغضه لحداثة سنه، فأعطاه رسول الله مثل ما أعطى القوم، فأزرى به قيس، وقال فيه أبيات شعر وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي} إلى قوله: {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} يعني جزاء وافراً، وهو الجنّة.


{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}
{إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات} يعني أعراب تميم، حيث نادوا: يا محمّد اخرج علينا، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين، قاله قتادة. قال ابن عبّاس: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى حي من بني العنبر وأمّر عليهم عُيينة بن حصين الفزاري، فلمّا علموا أنّه توجّه نحوهم، هربوا، وتركوا عيالهم، فسباهم عُيينة، وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت الظهيرة، وواقفوا رسول الله في أهله قائلاً، فلمّا رأتهم الذراري جهشوا إلى آبائهم يبكون، وكان لكلّ امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت، وحجرة، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلوا ينادون: يا محمّد اخرج إلينا حتّى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمّد فادنا عيالنا.
فنزل جبريل، فقال: يا محمّد إنّ الله يأمرك أن تجعل بينك، وبينهم رجلاً، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترضون أن يكون بيني وبينكم سمرة بن عمرو، وهو على دينكم؟».
فقالوا: نعم. قال سمرة: أنا لا أحكم بينهم وعمّي شاهد، وهو الأعور بن شامة فرضوا به.
فقال الأعور: أرى أن يفادي نصفهم، ويعتق نصفهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد رضيت».
ففادى نصفهم وأعتق نصفهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان عليه محرر من ولد إسماعيل، فليعتق منهم». فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ}.. الآية، وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من الغرف إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيّاً فنحن أسعد الناس به، وأن يكن ملكاً نعشْ في جناحه. فجاءوا إلى حجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه: يا محمّد، يا محمّد، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات} وهي جمع الحجر، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع، وفيه لغتان: فتح الجيم وهي قراءة أبي جعفر، كقول الشاعر:
أما كان عباد كفياً لدارم *** يلي ولأبيات بها الحجرات
يعني يلي ولبني هاشم.
{أَكْثَرُهُمْ} جهلاء {لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} لأنّك كنت تعتقهم جميعاً، وتطلقهم بلا فداء. {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي، قال: حدّثني هاشم بن القاسم الحراني، قال: حدّثني يعلى بن الأشدق، قال: حدّثني سعد بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن قول الله سبحانه: {إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات} قال: «هم الجفاة من بني تميم، لولا أنّهم من أشدّ الناس قتالاً للأعور الدجّال، لدعوت الله عزّ وجلّ أن يهلكهم».
{ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدّقاً، وكان بينه، وبينهم عداوة في الجاهلية، فلمّا سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه الشيطان أنّهم يريدون قتله، فهابهم، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ بني المصطلق، قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله، وهمّ أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقّاه، ونكرمه، ونؤدّي إليه ما قِبلنا من حقّ الله، فبدا له في الرجوع، فخشينا أن يكون إنّما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنّا نعوذ بالله من غضبه، وغضب رسوله، فأبهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر، وأمره أن يخفي عليهم قدومه.
وقال له: «انظر، فإن رأيت منهم ما يدلّ على إيمانهم، فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم ترَ ذلك، فاستعمل فيهم ما يُستعمل في الكفّار».
ففعل ذلك خالد ووافاهم، فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ منهم صدقاتهم، ولم ير منهم إلاّ الطاعة، والخير، فانصرف خالد إلى رسول الله، وأخبره الخبر، فأنزل الله سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} يعني الوليد بن عقبة بن أبي معيط سمّاه الله فاسقاً، نظيره {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]، قال سهل بن عبد الله وابن زيد: الفاسق الكذّاب. أبو الحسين الورّاق: هو المعلن بالذنب، وقال ابن طاهر وابن زيد: الفاسق الذي لا يستحي من الله سبحانه.
بنباً: بخبر {فتبينوا أَن تُصِيبُواْ} كي لا تصيبوا بالقتل، والقتال. {قَوْمًا} براء {بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} فاتقوا أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإنّ الله سبحانه يخبره أنباءكم، ويعرّفه أحوالكم، فتفتضحوا. {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر} فيحكم برأيكم، ويقبل قولكم. {لَعَنِتُّمْ} لأثمتم وهلكتم. {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} فأنتم تطيعون رسول الله وتأتمّون به، فيقيكم الله بذلك العنت. {وَزَيَّنَهُ} وحسّنه {فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان}.
ثمّ انتقل من الخطاب إلى الخبر، فقال عزّ من قائل: {أولئك هُمُ الراشدون} نظيرها قوله سبحانه: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون}
[الروم: 39]، قال النابغة:
يا دارميّة بالعلياء فالسند *** أقوتْ وطال عليها سالف الأبد
{فَضْلاً} أي كان هذا فضلاً {مِّنَ الله وَنِعْمَةً والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} قال أكثر المفسِّرين: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على مجلس من مجالس الأنصار وهو على حماره، فبال حماره، فأمسك عبدالله بن أُبي بأنفه وقال: إليك عنّا بحمارك، فقد آذانا نتنه. فقال عبد الله بن رواحة: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك.
فغضب لعبد الله بن أُبي رجل من قومه، وغضب لعبد الله بن رواحة رجل من قومه، فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه حتّى استسبّوا، وتجالدوا بالأيدي، والجريد، والنعال، ولم يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمساكهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، فلمّا نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطلحوا، وكفَّ بعضهم عن بعض، وأقبل بشير بن النعمان الأنصاري مشتملاً على سيفه، فوجدهم قد اصطلحوا، فقال عبدالله بن أُبي: أعليَّ تشتمل بالسيف يا بشير؟ قال: نعم، والّذي أحلف به لو جئت قبل أن تصطلحوا لضربتك حتّى أقتلك، فأنشأ عبد الله بن أُبي يقول:
متى ما يكن مولاك خصمك جاهداً *** تظلم ويصرعك الذين تصارع
قال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار، كانت بينهما مذاراة في حقّ بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذنّ حقّي منك عنوة، لكثرة عشيرته، وإنّ الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما، حتّى تدافعوا، وقد تناول بعضهم بعضاً بالأيدي، والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف. وروى محمّد بن الفضيل، عن الكلبي أنّها نزلت في حرب سمير وحاطب، وكان سمير قتل حاطباً، فجعل الأوس والخزرج يقتتلون إلى أن أتاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وأمر نبيّه، والمؤمنين أن يصلحوا بينهم.
وروى سفيان عن السدّي، قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أُمّ زيد تحت رجل، وكان بينها، وبين زوجها شيء، فرمى بها إلى عُلية، وحبسها فيها، فبلغ ذلك قومها فجاءوا، وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي، والنعال، فأنزل الله سبحانه تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} الآية.
{فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} بالدعاء إلى حكم كتاب الله سبحانه، والرضا بما فيه لهما، وعليهما. {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء} ترجع {إلى أَمْرِ الله} وأبت الإجابة إلى حكم الله تعالى له، وعليه في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه. {فَإِن فَآءَتْ} رجعت إلى الحقّ {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بحملهما على الإنصاف والرضى بحكم الله، وهو العدل، {وأقسطوا} واعدلوا. {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين * إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} في الدين، والولاية {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} إذا اختلفا، واقتتلا، وقرأ ابن سيرين، ويعقوب. بين {اخوتكم} بالتاء على الجمع، وقرأ الحسن {إخوانكم} بالألف والنون.
{واتقوا الله} فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
قال أبو عثمان البصري: أخوة الدّين أثبت من أخوّة النسب، فإنّ اخوّة النسب تنقطع لمخالفة الدين، وأُخوّة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وسُئل الجنيد عن الأخ، فقال: هو أنت في الحقيقة إلاّ إنّه غيرك في الشخص. أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق المسوحي. قال: حدّثنا عمرو بن علي، قال: حدّثنا أبو عاصم. قال: حدّثنا إسماعيل بن رافع، عن ابن أبي سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يعيبه، ولا يخذله، ولا يتطاول عليه في البنيان، فيستر عليه الريح إلاّ بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره إلاّ أن يعرف له، ولا يشتري لبنيه الفاكهة، فيخرجون بها إلى صبيان جاره، ولا يطعمونهم منها».
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احفظوا، ولا يحفظه منكم إلاّ قليل».
وفي هاتين الآيتين دليل على انّ البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأنّ الله سبحانه وتعالى سمّاهم أخوة مؤمنين مع كونهم باغين، عاصين. يدلّ عليه ما روى الأعور أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه سُئل وهو القدوة في قتال أهل البغي، عن أهل الجمل، وصفّين، أمشركون هم؟ فقال: لا، من الشرك فرّوا. فقيل: أهم منافقون؟ فقال: إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلاّ قليلاً. قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
وقد أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن شنبه، قال: حدّثنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي قال: حدّثنا أبو نصر التمّار، قال: حدّثنا كوثر، عن نافع، عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يا عبد الله هل تدري كيف حكم الله سبحانه فيمن بغى من هذه الأُمّة؟».
قال: الله ورسوله أعلم. قال: «لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها» وسُئل محمّد بن كعب القرظي عن هاتين الآيتين، فقال: جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أجر المصلح بين الناس، كأجر المجاهد عند الناس، وقال بكر بن عبد الله: امش ميلاً، وعد مريضاً، امش ميلين، وأصلح بين اثنين، امش ثلاثة أميال، وزر أخاك في الله.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ} الآية، قال ابن عبّاس: نزلت في ثابت بن قيس، وذلك أنّه كان في إذنه وقر، فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس، أوسعوا له حتّى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم، وقد فاته من صلاة الفجر ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم منه، فربض كلّ رجل بمجلسه، فلا يكاد يوسع أحد لأحد، فكان الرجل إذا جاء، فلم يجد مجلساً، قام قائماً، كما هو، فلمّا فرغ ثابت من الصلاة، وقام منها، أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتخطّى رقاب الناس، ويقول: تفسحوا تفسحوا، فجعلوا يتفسحون له حتّى انتهى إلى رسول الله إلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل.
فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد أصبت مجلساً، فاجلس، فجلس ثابت من خلفه مغضباً، فلمّا ابينت الظلمة، غمز ثابت الرجل، وقال: مَنْ هذا؟ قال: أنا فلان. فقال له ثابت: ابن فلانة. ذكر أُمّاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه واستحيى، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وقال الضحّاك: نزلت في وفد تميم الذين ذكرناهم في صدر السورة، استهزءوا بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمّار، وخباب، وبلال، وصهيب، وسلمان، وسالم مولى أبي حذيفة، لما رأوا من رثاثة حالهم، فأنزل الله سبحانه في الذين آمنوا منهم {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ} أي رجالٌ من رجال، والقوم اسم يجمع الرجال والنساء، وقد يختص بجمع الرجال، كقول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء
{عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} نزلت في امرأتين من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم سخرتا من أُمّ سلمة، وذلك أنّها ربطت خصريها بسبيبة وهي ثوب أبيض ومثلها السب وسدلت طرفيها خلفها. كانت تجرها.
فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب. فهذا كان سخريتهما.
وقال أنس: نزلت في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عيّرن أُمّ سلمة بالقِصَر. ويقال: نزلت في عائشة، أشارت بيدها في أُمّ سلمة أنّها قصيرة، وروى عكرمة، عن ابن عبّاس أنّ صفية بنت حيي بن أخطب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ النساء يعيّرني فيقلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلاّ قلت: إنّ أبي هارون، وابن عمّي موسى، وإنّ زوجي محمّد»، فأنزل الله سبحانه هذه الآية {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} أي لا يعيب بعضكم بعضاً، ولا يطعن بعضكم على بعض. وقيل: اللمز العيب في المشهد، والهمز في المغيب، وقال محمّد بن يزيد: اللمز باللسان، والعين، والإشارة، والهمز لا يكون إلاّ باللسان، قال الشاعر:
إذا لقيتك عن شخط تكاشرني *** وإن تغيبتُ كنت الهامز اللمزه
{وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} قال أبو جبير بن الضحّاك: فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وما منّا رجل إلاّ له اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا الرجل الرجل باسم، قلنا: يا رسول الله، إنّه يغضب من هذا. فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب}.
قال قتادة، وعكرمة: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق، يا كافر، وقال الحسن: كان اليهودي، والنصراني يُسلم، فيقال له بعد إسلامه: يا يهودي، يا نصراني، فنُهوا عن ذلك، وقال ابن عبّاس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيّئات، ثمّ تاب منها، وراجع الحقّ، فنهى الله أن يعيّر بما سلف من عمله.
{بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} يقول: من فعل ما نهيت عنه من السخرية، واللمز والنبز، فهو فاسق، و{بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} فلا تفعلوا ذلك، فتستحقّوا اسم الفسوق وقيل: معناه بئس الاسم الذي تسميه، بقولك فاسق، بعد أن علمت أنّه آمنَ.
{وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون * ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن}... الآية نزلت في رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اغتابا رفيقيهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر، ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسورين يخدمهما، ويحقب حوائجهما، ويتقدّم لهما إلى المنزل، فيهيّئ لهما ما يصلحهما من الطعام، والشراب، فضم سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدّم سلمان، فغلبته عيناه، فلم يهيّئ لهما شيئاً، فلمّا قدما، قالا له: ما صنعت شيئاً؟ قال: لا. قالا: ولِمَ؟ قال: غلبتني عيناي، فقالا له: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واطلب لنا منه طعاماً وإداماً، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلق إلى أُسامة بن زيد وقل له: إن كان عنده فضل من طعام، وإدام، فليعطك».
كان أُسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله، فأتاه، فقال: ما عندي شيء، فرجع سلمان إليهما، وأخبرهما بذلك، فقالا: كان عند أُسامة، ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة، فلم يجد عندهم شيئاً، فلمّا رجع سلمان، قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثمّ انطلقا يتجسّسان هل عند أُسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما» قالا: يا رسول الله، والله ما تناولنا يومنا هذا لحماً، فقال: «ظللتم تأكلون لحم سلمان، وأسامة».
فأنزل الله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن}. {إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ} قرأه العامّة بالجيم وقرأ ابن عبّاس، وأبو رجاء العطاردي {ولا تحسّسوا} بالحاء، قال الأخفش: ليس يبعد أحدهما عن الآخر. إلاّ أنّ التجسّس لما يُكتم، ويُوارى، ومنه الجاسوس، والتحسس بالحاء تحبر الأخبار، والبحث عنها، ومعنى الآية خذوا ما ظهر، ودعوا ما ستر الله، ولا تتّبعوا عورات المسلمين.
أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن شنبه، قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا قتيبة بن سعد، عن مالك، عن أبي الزياد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً».
وأخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن حبش، قال: أخبرنا علي بن زنجويه. قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن زرارة بن مصعب بن عبد الرّحمن بن عوف، عن المسوّر بن مخرمة، عن عبد الرّحمن بن عوف، أنّه حرس ليلة عمر بن الخطّاب بالمدينة، فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمّونه، فلمّا دنوا منه، إذا باب يجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة، ولغط، فقال عمر، وأخذ بيد عبد الرّحمن: أتدري بيت من هذا؟ قال: قلت: لا.
قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن بيثرب، فما ترى؟ قال عبد الرّحمن: أرى أنّا قد أتينا ما قد نهى الله سبحانه، فقال: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} فقد تجسسنا، فانصرف عمر عنهم، وتركهم.
وبه عن معمر، قال: أخبرني أيّوب، عن أبي قلابة أنّ عمر بن الخطّاب، حُدِّث أنّ أبا محجن الثقفي شرب الخمر في بيته هو وأصحابه، فانطلق عمر حتّى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلاّ رجل، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك، فقد نهاك الله عزّ وجلّ عن التجسّس، فقال عمر: ما يقول هذا؟ فقال زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم: صدق يا أمير المؤمنين، هذا التجسّس، قال: فخرج عمر رضي الله عنه، وتركه. وروى زيد بن أسلم أنّ عمر بن الخطّاب خرج ذات ليلة، ومعه عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنهما يعسّان إذ شبَّ لهما نار، فأتيا الباب، فاستأذنا، ففتح الباب، فدخلا، فإذا رجل، وامرأة تغنّي، وعلى يد الرجل قدح، وقال عمر للرجل: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: فمن هذه منك؟ قال: امرأتي.
قال: وما في القدح؟ قال: ماء زلال. فقال للمرأة: وما الّذي تغنّين؟ فقالت: أقول:
تطاول هذا الليل واسودَّ جانبه *** وأرّقني ألاّ حبيب ألاعبه
فوالله لولا خشية الله والتقى *** لزُعزع من هذا السرير جوانبه
ولكن عقلي والحياء يكفني *** وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ثمّ قال الرجل: ما بهذا أُمرنا يا أمير المؤمنين، قال الله: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} فقال عمر: صدقت، وانصرف. وأخبرنا الحسين، قال: حدّثنا موسى بن محمّد بن علي. قال: حدّثنا الحسين بن علوية. قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدّثنا المسيب، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: قيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً؟ فقال: إنّا قد نهينا عن التجسّس، فإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به.
{وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} أخبرنا الحسين، قال: حدّثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقري. قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن زيد أبو بكر السطوي، قال: حدّثنا علي بن اشكاب، قال: حدّثنا عمر بن يونس اليمامي، قال: حدّثنا جهضم بن عبد الله، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال: «أن يُذكر أخاك بما يكره، فإمّا إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه».
وقال معاذ بن جبل: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر القوم رجلاً، فقالوا: ما يأكل إلاّ ما أطعم، ولا يرحل إلاّ ما رحّل، فما أضعفه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اغتبتم أخاكم» قالوا: يا رسول الله وغيبة أن نحدّث بما فيه؟ فقال: «بحسبكم أن تحدّثوا عن أخيكم بما فيه».
وروى موسى بن وردان عن أبي هريرة أنّ رجلاً قام من عند رسول الله، فرأوا في قيامه عجزاً، فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلاناً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكلتم أخاكم واغتبتموه».
{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً}، قال قتادة: يقول: كما أنت كاره أن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها، فكذلك فاكره لحم أخيك وهو حيّ، {فَكَرِهْتُمُوهُ} قال الكسائي، والفراء: معناه، فقد كرهتموه. وقرأ أبو سعيد الخدري {فكرهتموه} بالتشديد على غير تسمية الفاعل.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا عمر بن نوح البجلي، قال: حدّثنا أبو صالح عبد الوهاب بن أبي عصمة. قال: حدّثنا إسماعيل بن يزيد الأصفهاني. قال: حدّثنا يحيى بن سليم، عن كهمس، عن ميمون بن سباه، وكان يفضل على الحسن، ويقال: قد لقي من لم يلق، قال: بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي: كُلْ، قلت: يا عبد الله، ولِمَ آكل؟ قال: بما اغتبت عبد فلان، قلت: والله ما ذكرت منه خيراً، ولا شرّاً، قال: لكنّك استمعت، ورضيت، فكان ميمون بعد ذلك لا يغتاب أحداً، ولا يدع أن يغتاب عنده أحد، وحُكي عن بعض الصالحين أنّه قال: كنت قاعداً في المقبرة الفلانية، فاجتازني شاب جلد، فقلت: هذا، وأمثاله، وبالٌ على الناس، فلمّا كانت تلك الليلة رأيت في المنام أنّه قُدِّم إليَّ جنازة عليها ميّت، وقيل ليّ كُلْ من لحم هذا، وكشف عن وجهه، فإذا ذلك الشاب، فقلت: أنا لم آكل من لحم الحيوان الحلال منذ سنين، فكيف آكل هذا؟ فقيل: فلِمَ اغتبته إذاً؟ فانتبهت حزيناً، فكنت آوي إلى تلك المقبرة سنة واحدة، فرأيت الرجل، فقمت إليه لأستحلّ منه، فنظر إليَّ من بعيد، فقال: تبت.
قلت: نعم، قال: ارجع إلى مكانك.
وقد أخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل. قال: أخبرنا علي بن محمّد. قال: حدّثنا يحيى بن آدم. قال: حدّثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن ابن عمر، لأبي هريرة، قال: جاء ماعر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنّه زنى، فأعرض عنه، حتّى أقرّ أربع مرّات، فأمر برجمه، فمرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على رجلين يذكران ماعراً، فقال أحدهما: هذا الذي ستر عليه، فلم تدعه نفسه حتّى رُجم برجم الكلب.
قال: فسكت عنهما حتّى مرّا معه على جيفة حمار شائل رجله، فقال صلى الله عليه وسلم لهما: «انزلا فأصيبا منه». فقالا: يا رسول الله غفر الله لك، وتؤكل هذه الجيفة؟ قال: «ما أصبتما من لحم أخيكما آنفاً أعظم عليكما، أما إنّه الآن في أنهار الجنّة منغمس فيها».
وأخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا الفريابي، قال: حدّثنا محمّد بن المصفى، قال: حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا عبد القدوس بن الحجّاج، قال: حدّثني صفوان بن عمرو، قال: حدّثنا راشد بن سعد، وعبد الرّحمن بن جبير، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم النّاس، ويقعون في أعراضهم».
{واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} أخبرني الحسين، قال: حدّثنا موسى بن محمّد بن علي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدّثنا يحيى بن أيّوب، قال: حدّثنا أسباط، عن أبي رجاء الخراساني، عن عبّاد بن كثير، عن الحريري، عن أبي نصرة، عن جابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخُدري، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغيبة أشدّ من الزنا». قيل: وكيف؟ قال: «إنّ الرجل يزني، ثمّ يتوب، فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يُغفر له حتّى يغفر له صاحبه».
وأخبرني الحسين، قال: حدّثنا الفضل. قال: حدّثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر البزاز البغدادي، قال: حدّثنا محمّد بن علي الورّاق. قال: حدّثنا هارون بن معروق، قال: حدّثنا ضمرة، عن ابن شوذي، قال: قال رجل لابن سيرين: إنّي قد اغتبتك، فاجعلني في حلّ، قال: إنّي أكره أن أحلّ ما حرّم الله.
وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا أبو الطيب بن حفصويه، قال: حدّثنا عبد الله بن جامع. قال: قرأت على أحمد بن سعيد، حدّثنا سعيد، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسّان عن خالد الربعي، قال: قال عيسى ابن مريم لأصحابه: أرأيتم لو أنّ أحدكم رأى أخاه المسلم قد كشف الريح عن ثيابه؟ قالوا: سبحان الله إذاً كنّا نردّه. قال: لا، بل كنتم تكشفون ما بقي، مثلاً ضربه لهم يسمعون للرجل سيئة أو حسنة، فيذكرون أكثر من ذلك.

1 | 2